نوري جيلان: شاعر السينما وأديب الصورة

علي بدر

في عالم السينما، حيث يتقاطع النور مع العتمة وحيث تصبح الكاميرا شاهدًا على هشاشة الروح البشرية، يقف نوري بليغ جيلان كواحد من أولئك المخرجين الذين لا يرسمون على الشاشة فحسب، بل ينسجون أرواحًا. جيلان ليس مجرد مخرج؛ إنه شاعر، حائك ماهر للحكايات الصغيرة التي تتسرب إلى الأعماق دون أن تصدر ضجيجًا. عالمه السينمائي عالم مفعم بالتكرار، بالتفاصيل، بالتناقضات التي تجعل الإنسان إنسانًا.
التكرار في أعمال جيلان هو موسيقى صامتة، التكرار ليس عبئًا ولا مللًا، بل هو إيقاع الحياة. يُكرر جيلان الصمت ليصبح أكثر صخبًا، ويُكرر التفاصيل لتصبح أكثر بروزًا. تلك اللحظات الصغيرة، مثل صوت الرياح التي تعصف بأغصان شجرة، أو وقع الخطوات على الثلج، أو حركة ذبابة على وجه شخصية، تصبح هي جوهر الحكاية. التكرار عنده ليس تكرارًا، بل هو إعادة تأكيد على أن كل شيء يستحق الملاحظة، أن كل شيء يحمل في داخله معنى.
في فيلمه “ثلاثة قرود”، يتكرر صوت القطارات الذي يشق الليل، لا كعنصر مكاني فقط، بل كرمز للانفصال والعبور، كإشارة إلى أن الحياة تمضي بلا توقف، وأن الشخصيات، رغم ثقل مآسيها، عالقة في انتظار دائم. القطارات تمرّ، ولكن أين المحطة؟
عندما يشاهد المرء أفلام جيلان، يشعر وكأنه يدخل في أدق تفاصيل الحياة. كل مشهد يحمل داخله عوالم متشابكة. شجرة وحيدة تقف في الثلج تصبح شهادة على الوحدة. نافذة تطل على المدينة تصبح بوابة إلى الروح. حتى الكاميرا، التي تظل غالبًا ثابتة، لا تراقب فحسب، بل تتنفس مع الشخصيات.
جيلان يصرّ على التفاصيل. وجه مغبرّ بعد رحلة طويلة، سيجارة تُشعل في لحظة صمت، نظرة تمتد لدقائق دون كلمة – كل هذه التفاصيل تشكل نسيجًا سرديًا يجعلنا نشعر أن الحياة، بكل قسوتها وجمالها، حاضرة دائمًا. في “بلد الكمثرى البرية”, تصبح التفاصيل وسيلة لفهم الطموحات الضائعة، والانكسارات الصغيرة التي لا تلتئم أبدًا.
عالمه السينمائي: الحزن كجوهر
جيلان ليس مخرجًا يهرب من الحزن؛ بل يواجهه كأنه قدر حتمي. الحزن هو السمة المهيمنة في أفلامه، لكنه ليس حزنًا قاتمًا تمامًا، بل حزن مليء بالجمال. إنه الحزن الذي يشعر به الإنسان عندما يواجه غموض العالم. عندما يقف أمام الثلج الذي يغطي الأرض ولا يعرف إلى أين يتجه. عندما يشعر بأن الكلمات التي قالها في لحظة غضب قد أفسدت كل شيء.
جيلان لا يبحث عن حلول؛ بل يقدم تساؤلات. شخصياته تعيش في عالم مليء بالاضطراب الداخلي. في “مناخات”نجد البطل غير قادر على التعبير عن نفسه أو فهم الآخر. في “ذات مرة في الأناضول” تكتشف الشخصيات الحقيقة ببطء، وسط ظلام الريف التركي.
الطبيعة عند جيلان ليست خلفية، بل شريك في الحكاية. الثلج، الغيوم، المطر، الرياح، كلها تلعب دورًا أساسيًا في التعبير عن الحالة النفسية للشخصيات. عندما ينتهي فيلم “مناخات” بالثلج يغطي المشهد، لا نرى نهاية فقط، بل نشعر بثقل الحياة الذي لا يزول. الطبيعة تُكرر وجودها، تعيد تذكير الشخصيات – والجمهور – بأنهم جزء من شيء أكبر.
جيلان يتحدى الصبر. أفلامه ليست لمن يبحث عن الإثارة السريعة أو الحلول الواضحة. إنه مخرج البطء، الذي يجعل كل لحظة تنبض بالحياة. في أفلامه، الصمت يتكلم، والوجوه تبوح بما لا تقوله الكلمات. أسلوبه يتطلب أن نكون شهودًا صبورين، مستعدين لاكتشاف الجمال في الأماكن غير المتوقعة.
نوري بيلغي جيلان ليس مخرجًا يسعى لإرضاء الجمهور؛ بل هو مخرج يبحث عن الحقيقة. أفلامه هي تأملات في الإنسان، في الوحدة، في الصراع الداخلي. إنه يذكرنا بأن السينما ليست مجرد ترفيه، بل وسيلة لفهم العالم – وللعودة إلى أعماق أنفسنا.
جيلان، بتكراره، بتفاصيله، ببطئه، يعيدنا إلى جوهر الحياة. يعيدنا إلى تلك اللحظات الصغيرة التي تشكل نسيج أيامنا. يجعلنا نرى العالم – ونرى أنفسنا – بشكل أوضح، وأعمق، وأكثر صدقًا.
إذا كانت السينما في جوهرها فنًا للحركة والصوت، فإن نوري بيلغي جيلان هو من أولئك المخرجين الذين يعيدون تعريف الحركة، ليحولها إلى بطء ساحر يلتقط تفاصيل الحياة كما هي. أفلام جيلان لا تُسرع، بل تمشي بخطى بطيئة، وكأنها تدعونا للتأمل في مشاهدها وأصواتها وسكونها. البطء في أعماله ليس مجرد أسلوب، بل هو فلسفة، إيقاع ينبض بروح الشخصيات ويمنحنا وقتًا لنعيش تجاربها الداخلية.
في أفلام جيلان البطء كأداة للتعبير فلا شيء يحدث على عجل. المشاهد تمتد، الحوار يأخذ وقته، والصمت يصبح لغة بذاته. في فيلم “ذات مرة في الأناضول”, يستغرق البحث عن جثة طوال الليل. المشهد يبدو وكأنه بلا نهاية، لكنه ليس بلا معنى. البطء هنا يكشف التوتر الكامن بين الشخصيات، ويجعلنا نشعر بثقل اللحظة التي يعيشونها.
جيلان يستخدم البطء كأداة لفتح أبواب التأمل. إنه يرفض الإيقاع السريع الذي يستهلك الحكاية ويركز على الحدث فقط. بدلاً من ذلك، يمنح كل مشهد وقتًا لينبض بالحياة، ليصبح أكثر واقعية. البطء عند جيلان ليس تأخيرًا، بل هو وسيلة لجعلنا نرى ونشعر أكثر.
أفلام جيلان مليئة بالصمت. لكن هذا الصمت ليس فراغًا؛ إنه مليء بالمشاعر التي لا تُقال. عندما يجلس شخص في غرفة دون أن يتحدث، فإن هذا الصمت يقول الكثير عن الوحدة، عن الغضب، عن الحزن. البطء هنا يسمح لهذه المشاعر بأن تأخذ مساحتها، لتصبح حاضرة بشكل أكثر عمقًا.
في “مناخات” عندما تتدهور علاقة الزوجين، لا نجد صراخًا متواصلًا أو أحداثًا درامية صاخبة. بدلاً من ذلك، نجد لحظات طويلة من الصمت، من التحديق، من التفاعل البطيء. كل لحظة تصبح اختبارًا لصبر المشاهد، لكنها أيضًا دعوة لفهم المشاعر الكامنة خلف هذا الهدوء الظاهري.
جيلان يجعل الطبيعة شريكًا أساسيًا في أعماله. الثلج الذي يغطي الأرض، الرياح التي تهب على الحقول، الشمس التي تغيب ببطء وراء الأفق – كل هذه العناصر تأخذ وقتها في أفلامه. الطبيعة عند جيلان ليست مجرد خلفية، بل هي انعكاس للمزاج الداخلي للشخصيات. البطء في تصويرها يجعلها تبدو وكأنها تعيش معنا، وكأنها تتنفس مع الشخصيات.
في “بلد الكمثرى البرية”, البطء في تصوير المناظر الطبيعية يعكس إحباط الشخصية الرئيسية وسعيه للهرب من واقعه. المشاهد الطويلة للحقول الفارغة والأشجار العارية تضعنا في حالة من التأمل والانعزال، تمامًا كما يشعر البطل.
جيلان لا يرى البطء كإيقاع سينمائي فقط، بل كطريقة لفهم الحياة. في العالم الحديث، حيث تستهلكنا السرعة في كل شيء، يقف جيلان في وجه هذا التيار. أفلامه تدعونا للتوقف، للتأمل، لإعادة النظر في التفاصيل التي تمر علينا دون أن نلاحظها. البطء هنا يصبح مقاومة للزمن السريع، ومحاولة لاستعادة الإيقاع الطبيعي للوجود.
البطء عند جيلان لا يعني الجمود. على العكس، إنه وسيلة لتعزيز الواقعية. الحياة ليست سلسلة من الأحداث المتسارعة، بل هي لحظات من الترقب والانتظار والصراع الداخلي. البطء في أفلام جيلان يعكس هذا الإحساس بالواقعية. إنه يجعلنا نشعر أننا نعيش مع الشخصيات، ننتظر معها، نتحمل معها ثقل الزمن.
في عالم يهرع نحو الأمام بلا توقف، يعيد نوري بيلغي جيلان تعريف قيمة البطء. أفلامه تذكرنا بأن الحياة ليست في العجلة، بل في اللحظات الصغيرة التي تملأ فراغات الزمن. البطء عنده ليس تأخرًا، بل هو وسيلة للوصول إلى العمق، إلى ما هو حقيقي.
جيلان يجعلنا نعيش في زمن سينمائي خاص به، حيث تتوقف العجلة عن الدوران، وحيث يصبح لكل لحظة معنى، ولكل صمت صوت. البطء في أفلامه ليس فقط إيقاعًا، بل هو رحلة في أعماق النفس البشرية، دعوة للتأمل، وتجربة سينمائية لا تُنسى.

* كاتب وروائي عراقي

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.