كتبه | محمد الحسين _ العراق
في معرض حديثه عن الجاحظ أخبرنا أبو حيان التوحيدي، أن ثمة جاحظ آخر في الدنيا، مع أنه قد يكون من الصعب أن يوجد جاحظان في الدنيا، ولكن ثمة جاحظ فارسي، وهو في خراسان، ويدعى أبو زيد أحمد بن سهل البلخي، وقد قال عنه التوحيدي أنه لم يكن له شبيه في العصور السابقة، ولن يوجد له نظير في مستقبل الدهر، وأنه -والحديث للتوحيدي- بحر البحور وعالم العلماء.
ولما كان المؤرخون وكتاب زمانه يزكونه ويكثرون في مدحه، ويصفونه بالجاحظ الثاني، أو جاحظ خراسان، وينتهي عنده أبو حيان التوحيدي قائلا في موطن آخر أن القول فيه لكثير، فهذا إذا يعطينا صورة لعالِم جليل تخطت قدراته الحدودوفاضت حكمته في الآفاق، وبلغ تأثيره مبلغ الأعجاب، ولم يكن ثمة حكيم من حكماء الإسلام عفى عليه الدهر فحسب، حتى بلغ بنا الغبن كي ننسى ذكراه وننصرف عن محتواه طيلة عصور طويلة.
وقد جاء في الجزء الأول من معجم الأدباء لياقوت الحموي أنه قال سمعت بعض أهل الأدب يقول : أنه قد اتفق أهل صناعة الكلام على أن متكملي العالم ثلاثة الجاحظ، وعلي بن عبيدة، وأبو زيد البلخي. فمنهم من يزيد لفظه على معناه وهو الجاحظ، ومنهم من يزيد معناه على لفظه وهو علي بن عبيدة، ومنهم من توافق لفظه ومعناه وهو أبو زيد، والذي يقال له في العراق جاحظ خراسان.
وتحدث ابن النديم في الفهرست عن ابو زيد البلخي، ومن كلامه قوله أنه : “كان رجلاً فاضلاً في سائر العلوم القديمة والحديثة، تلا في تصنيفاته وتأليفاته طريقة الفلاسفة، إلَّا أنه بأهل الأدب أشبه، وإليهم أقرب.”
فهو العالم أحمد بن سهل الملقب بأبي زيد البلخي لأنه ولد في إحدى قرى “بلخ” على الأرجح سنة ٢٣٥ هجرية، وعاش طفولته في مسقط رأسه، وهي قرية من قرى بلخ تدعى “شامستيان” لأسرة فقيرة، كان والده معلما للصبيان، ولما شب ابنه أحمد أرسله إلى العراق ليقتبس هناك العلم والحكمة من اساطينها في بغداد.
قيل إنه مكث في بغداد ثماني سنوات يتعلم فيها على يد مشايخها واعلامها الكبار من أمثال محمد الوزيري وزكريا الرازي وغيرهم، وقد تتلمذ على يدي الفيلسوف الكبير يعقوب بن إسحاق الكندي، فأخذ عنه الطب والفلسفة، وعلوم الدين والطبيعيات، ولما اكتفى منه، راح يجوب بلدان العالم الإسلامي شرقا وغربا، حتى استقر اخيرا في سمرقند، ثم رجع لمسقط رأسه في بلخ فكانت وفاته فيها سنة ٣٢٢ هجرية بعد أن أتم السابعة والثمانين عاما.
شبه المؤرخون والكتاب ابن البلخي بالجاحظ وسموه بجاحظ خراسان، ذلك لأنه كان شبيها بالجاحظ شكلا ومضمونا، فقد كان قصير القامة نحيفا مصفرا أسمر اللون جاحظ العينين فيهما تأخر ومثل بوجهه آثار جدري، وكان خجولا وصموتا سكيتا، وانطوائيا، وذا وقار وهيبة.
تميز ابن سهل بذكائه الخارق وفطنته، ما جعل شيخه الفيلسوف الرازي يصفه بالداهية، ففي بلخ عرضت عليه الوزارة لكنه رفضها وعين كاتبا لأمير بلخ، حيث أن عزوفه عن السياسة واجتنابه لتقلد المناصب، وأنه آثر الكتابة على الاشتغال بالسياسة ميز شخصيته عن اقرانه، ومن ذلك الوقت اتيحت له الفرصة لعرض قدرات نبوغه فأخذ يصنف الكتب والرسائل في كافة المجالات الفكرية والعلمية.
وقد عرف ابن سهل في تصانيفه بقدرته على المزج بين روح الفلسفة وروح الأدب فيتخذ طريق الثانية ليشق به مجاهل الأولى، حيث لا تدري وأنت تقرأ لأديب أم لفيلسوف، لأنه يزيدك من الحكمة والشريعة والأدب والسياسة والفكر ما يجعلك متخما.
كان البلخي من الفلاسفة المسلمين الأوائل الذين آمنوا بكروية الأرض، ولأن ذلك يعني خروجهم عن الملة فقد اتهم البلخي على أثر ذلك بالألحاد كما قال ابن النديم، رغم أن المؤرخين قد اثبتوا وحدانيته، وبعضهم قال أنه كان إماميا منذ شبابه، والبعض الآخر قال أنه كان زيديا، وقيل أنه كان من إتباع مذهب المعتزلة.
ألف البلخي أول كتاب في التراث العربي والإسلامي اهتم فيه بمباحث الجغرافيا أسماه “صور الأقاليم” ثم كتاب “المقالتين” أو “مصالح الأبدان” الذي كان من أهم الكتب في مجال الطب، والذي يتكون من مقالتين الأولى في الطب الجسدي، والثانية في الطب النفسي والأخيرة التي أُسست من خلالها المفاهيم العامة للطب النفسي. وهذا الكتاب ترجم إلى لغات عديدة، ولأهميته يتم تدريسه في بعض الجامعات الغربية.
لقد وضع البلخي مجموعة من التقاليد والتدابير الطبية التي يمكن أن تعيد الصحة لجسم البني آدم بعد زوالها، فكان يرى أن الصحة كالمال يضيع في المتع ثم يمكن جمعه من جديد في العمل والتدابير الاقتصادية.
الجدير بالذكر في هذا المجال أن البلخي يجمع بين صحة البدن وصحة النفس، ويرى أن علاج الأخيرة لا يقل شأنا ول ايختلف عن علاج الأولى، فكما يحمي البني آدم نفسه من اخطار الأمراض الجسدية وهو لن يسلم منها أبد الدهر، كذلك ينبغي له أن يحمي نفسه من كدر الحياة ونوائبها التي تضر بنفسيته حيث لا يوجد بني آدم قد سلم من نوائب الحياة. وكما يتداوى الجسد بالمادة أي (الدواء) ولن ينفع فيه التوجيه، كذلك تتداوى النفس بالروح أي (الدواء النفسي) ولن تنفع فيها العقاقير.
ثم كان ابن البلخي هو أول من انتبه إلى التفريق وعدم الخلط بين المرض النفسي والمرض الجسدي ثم الفرق بين المرض النفسي والمرض العقلي.
ثم إنه تشتبك مسببات الأبدان بمسببات الأنفس في نوع من التبادل والتفاعل والتأثر والتأثير بين جسد الإنسان ونفسه كما يرى البلخي، حيث يقول البلخي في معرض حديثه عن هذا الجانب في مقالته الانفة الذكر :
“فهما يشتركان في الأحداث النائبة، والآلام العارضة، وكما أنالبدن إذا سقم وألِمَ وعرضت له الأعراض المؤذية، منع ذلك قوىالنفس من الفهم والمعرفة وغيرهما أن تفعل أفعالها علىوجهها.”
الملفت للنظر أن البلخي قد صك وصايا وقوانين أسست لما يعرف اليوم بعلم النفس، وكان قد سبق فيها العلماء المحدثين، حيث يرى بعض الباحثين أن سيجموند فرويد وكارل يونغ ومن تبعهم لم يأتوا بشيء جديد من بعده، إنما هم قاموا في الواقع باستنباط نظرياتهم من فكر البلخي، بعد اثني عشر قرنا.
ومن جملة ما بحث فيه البلخي في مجال علم النفس دراسته للأسباب الباعثة للاضطراب النفسي، حيث أنه حصرها في ثلاثة مجالات وهي :
أسباب نفسية، أسباب اجتماعية، أسباب حيوية.
حيث أن العوارض الداخلية، والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، والصحة الجسمانية له. هذه الأمور الثلاثة هي التي تصيب الإنسان بالاضطراب النفسي وتسيطر عليه. وقد كان هذا الطرح مبكرا، وسابقا لأوانه، إلا أنه لم ينتبه له الباحثون إلا في وقت متأخر جدا.
كما درس أبو زيد البلخي -وكان السباق في ذلك- مسألة الوسواس القهري وقال أنه مجرد أفكار غير حقيقية وتصورات وهمية تنتاب الشخص وتعيق انشطته اليومية ثم انها تؤثر سلبا على حياته لأن الوسواس القهري يمنع الشخص من الاستمتاع بحياته، وتفقده طمأنينته، فلماذا يخاف الإنسان من الموت؟ إذ أنه لا حاجة لخوف الإنسان غير المبرر من الموت طالما أنه يتفادى الآفات والعوارض المؤدية إلى ذلك، لأن الله جعل أسباب أكثر من أسباب الفناء كما يعبر البلخي عن ذلك في مقالته.
كتب البلخي مؤلفاته ورسائله بلغة سهلة وواضحة، ولا يجد القاريء في أي مستوى كان أية صعوبة في فهم ما يرمي إليه النص، وذلك كان مميزا البلخي عن علماء عصره الذين غاصوا بالتعقيد والاطناب.
ومن جملة مقولات ابن البلخي التي بثها في مؤلفاته ورسائله :
_ “للصدق أصل وفروع ونبات، من أكل من ثماره وجد حلاوة طعمه، والكذب عقيم لا أصل له ولا ثمر.”
_ “إذا كَثُرَ الخُزَّان للأسرار زادت ضياعاً.”
_ “إن الإنسان إنما قوامه بنفسه وبدنه، وليس يتوهَّم له بقاء إلا باجتماعهما.”
_ “إذا مدحك واحد بما ليس فيك؛ فلا تأمن أن يذمَّك أيضاً بما ليس فيك.”
_ “من سرَّه ما ليس فيه من الفضائل، ساء ما فيه من الرذائل.”
_ “الشريعة الفلسفة الكبرى، ولا يكون الرجل متفلسفاً، حتى يكون متعبِّداً مواظباً على أداء أوامر الشرع.”
_ “إن الفلسفة مقاودة للشريعة، والشريعة مشاكلة للفلسفة .. وإن أحداهما أم (الفلسفة)، والأخرى ظئر.” *الظئر : الأم التي ترضع ولد غيرها.
_ “الدواء الأكبر هو العلم.”
_ بيت شعر “الطويل” لكل امرئ ضيف يسر بقربه / ومالي سوى الأحزان والهم من ضيف
ومما روي في وفاته، ما نصه ابو حيان التوحيدي في كتابه النظائر ذكر أبو زيد الدمشقي قال دخلت على أبي زيد رحمه الله يوم الجمعة من شهر ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فوجدته ثقيلا من علته فسلمت سلاما ضعيفا ثم قال يا أبا بكر قد انقطع السبب وما هو إلا فراق الإخوان ودمعت عينه وبكيت أنا وقلت أرجو أن يشفع الله الشيخ فينا وفي عترتنا بعافيته فقال أيهات وقرأ هذه الآية {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} ثم قال لا تغب عني وكن بالقرب. لما كان عند العتمة قال انصرفوا حتى أدعوكم وقال لابنه الحسين إذا طلع القمر ونزل في الدار فأعلمني فلما طلع القمر أعلمه فصاح بهم فجاءوا وقال أطلع القمر فقالوا نعم قال اجمعوا كل من في المنزل فاجتمعوا عليه ، فسأل كل واحد منهم عن حاله وعن كسوته وعن آلة الشتاء ثم قال بقي شيء لم أصلحه لكم قالوا لا .فاستحلفهم ثم قال عليكم السلام هذا آخر اجتماعي معكم ثم جعل يتشهد ويستغفر ثم قال قوموا فقد جاء نوبة غيركم فخرجوا من باب الطارقة وهم يسمعون تشهده ثم سكت فرجعوا وقد قضى نحبه رحمه الله .
في الأخير نذكر ما هو مشهور من مصنفات ومؤلفات البلخي،وهو ما ورد ذكره في كل من معجم الأدباء لياقوت الحموي، ولسان الميزان لأبن حجر، وطبقات المفسرين للدواودي، وهي تصانيف كثيرة في سائر العلوم والدين والفلسفة والأدب :
“أخلاق الأمم /طبقات الأمم / اقسام العلوم / كتاب السياسةالصغير / كتاب السياسة الكبير / رسالة حدود الفلسفة / فياقسام الفلسفة / البحث عن التأويلات / القرابين / الذبائح / شرائع الأديان / نظم القرآن / غريب القرآن / في تفسيرالفاتحة / الحروف المتقطعة في أوائل السور / المختصر فياللغة / اسامي الأشياء / النحو والتصريف / أدب السلطانوالرعية / فضل صناعة الكتابة / منية الكتاب / فضائل مكة / فضائل بلخ / اختيارات السير / صور الاقاليم/ الشطرنج / قوارع القرآن / مدح الورقة / عصمة الأنبياء / أشكال المناخ / ما يصح من أحكام النجوم / فضيلة علوم الرياضيات “
إن ما ينبغي الإشارة إليه من وراء ذلك هو أنه لو انتبه علماؤنا ومفكرينا إلى أرث ابو زيد البلخي واهتموا بدراسته لسبق العرب الغرب في تأسيس مدارس العلم النفسي والسلوكيات، ولكان ذلك يغنينا عن تقليد الغرب وتتبع نظرياتهم التي هي بالأصل توارد واستنساخ لنظريات علماؤنا وفلاسفتنا.