في شمس استوائية تنزلق كسائل ذهبي على الأجساد، يبدأ فيلم إيمانويل كدعوة إلى الحواس. الضوء هنا ليس مجرد إضاءة، بل هو يدٌ تمتد لتلامس، تنزلق على البشرة، تكتب قصيدة غير مرئية على كل منحنى وكل ظل. الكاميرا، كأنها عاشق صامت، تتحرك بخفة بين لمسات الأصابع، بين شهقات غير مسموعة، وبين العيون التي تنظر إلى ما وراء المرآة.
تم انتاج الفيلم عام 1974، وهو مستوحى من الرواية الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه للكاتبة إيمانويل أرسان. حقق الفيلم نجاحًا عالميًا وأصبح رمزًا للسينما الإيروتيكية في السبعينيات، كما أُتبع بعدة أجزاء استكملت قصة إيمانويل.
هذا المزج بين أداء سيلفيا كريستل، رؤية جوست جاكن، وسحر أماكن التصوير جعل إيمانويل أكثر من مجرد فيلم؛ إنه تجربة بصرية وحسية ترسخت في ذاكرة السينما. حيث ولد هذا الفيلم في قلب السبعينيات، تلك الحقبة التي كانت تطفو بين الحلم والتحرر، ولد كقصيدة بصرية تحت أنامل “جوست جاكن”. مخرج صنع من الضوء ظلالًا، ومن الظلال أسرارًا، حيث تراقصت الكاميرا على حافة الجسد والروح. كان جاكن أكثر من مخرج؛ كان شاعرًا، وكل لقطة من الفيلم كانت بيتًا من أبيات شعرية عظيمة. في يده، تحولت بانكوك إلى مسرح مفتوح، إلى مدينة تتنفس بخار الرطوبة، حيث تتشابك الطبيعة مع الرغبة، والظلال مع الهمسات.
تبدأ القصة مع إيمانويل، المرأة الشابة الجميلة، وهي تسافر إلى بانكوك لتلتحق بزوجها، المهندس الذي يعيش حياة راقية وسط طبيعة المدينة الساحرة ومجتمعها الغامض. لكن بانكوك ليست مجرد خلفية؛ إنها بوابة إلى عالم مختلف، عالم تتداخل فيه الحسية مع الروحانية، حيث يتماهى الجمال مع المجهول. في هذه البيئة الجديدة، تجد إيمانويل نفسها مدفوعة لاكتشاف أبعاد جديدة عن الحب، الرغبة، وذاتها التي كانت مخفية تحت قشرة الحياة العادية.
عبر لقاءاتها مع شخصيات مختلفة، تبدأ حبكة الفيلم بالتبلور كرحلة تعليمية تتجاوز الحدود الجسدية. هناك الزوج، الذي يمثل مزيجًا من الحبيب والمرشد، يشجعها على تجربة حياتها بحرية، دون قيود. وهناك النساء اللواتي تدخل حياتهن إيمانويل، وتصبح كل واحدة منهن نافذة إلى عالم مختلف من التعبير عن الذات والرغبة. هذه العلاقات، بجرأتها وخصوصيتها، تقودها إلى إعادة النظر في مفهوم الحب، الالتزام، والجسد بوصفه مساحة للتجربة والتواصل.
لكن الحبكة ليست فقط عن الجسد؛ إنها عن الصراع الداخلي الذي تعيشه إيمانويل وهي تحاول الموازنة بين حريتها الفردية والحب الذي يجمعها بزوجها. كل خطوة تأخذها نحو اكتشاف جديد تكون مغموسة بالتساؤل: هل يمكن للجسد أن يكون حُرًا بينما القلب مقيد؟ هل يمكن للحب أن يتعايش مع الرغبة في استكشاف الآخرين؟
المشاهد تزداد جرأة مع تقدم الحبكة، لكنها ليست أبدًا عارية من المعنى. كل لحظة حميمة، كل نظرة بين الشخصيات، تحمل في طياتها أبعادًا نفسية وروحية. بانكوك نفسها تتحول إلى انعكاس لهذه الرحلة؛ المدينة الحية والمليئة بالتناقضات تصبح مرآة لرغبات إيمانويل وصراعاتها.
في النهاية، لا تقدم الحبكة إجابة نهائية؛ فـإيمانويل ليس فيلمًا عن الوصول إلى هدف، بل عن الرحلة ذاتها. الرحلة التي تتعلم فيها البطلة أن الحياة ليست سلسلة من الإجابات، بل أسئلة مفتوحة، وأن الحرية ليست وجهة، بل حالة دائمة من البحث عن الذات. إيمانويل ينتهي كما بدأ، كحلم يتداخل فيه الجسد والروح، حيث يبقى الضوء والظل يتحاوران بلا نهاية.
في ضوء ناعم يتسلل عبر نافذة نصف مفتوحة، تقف في منتصف الغرفة. حركة يدها بطيئة، مدروسة، لكنها محملة بتوتر خفي. أصابعها تلتقط حمالة الصدر من طرف السرير، حركة تبدو كأنها تؤدي طقسًا يوميًا لكنه يحمل شيئًا من الحميمية التي لا يمكن تقاسمها. هناك صمت يحيط بالمشهد، لكن جسدها يتحدث بلغة التفاصيل.
تقف أمام مرآة خافتة الإضاءة، تنظر إلى انعكاسها بعينين تملأهما الحيرة أو الثقة أو شيء بينهما. تتوقف للحظة، تتأمل نفسها كما لو أنها ترى انعكاسًا لعالمها الداخلي. ترفع الحمالة بخفة، تنزلق بها على كتفيها العاريين، وكل حركة تبدو كأنها جزء من رقصة خفية، رقصة لا يشاهدها سوى الكاميرا.
الملابس الداخلية ليست مجرد قماش هنا؛ إنها طبقة أخرى من شخصيتها، تعكس هشاشتها أو قوتها، تمردها أو قبولها. عندما تمسك بطرف الكورسيه لتشدّه حول خصرها، هناك إحساس بأنها لا ترتدي ملابس فقط، بل ترتدي درعًا، تعد نفسها لمواجهة العالم أو للمواجهة مع ذاتها.
الإضاءة تجعل من نسيج الملابس ملمسًا حيًا، كل طية، كل انحناءة، تصبح جزءًا من السرد. لا شيء في هذا المشهد عابر. الطريقة التي تتحرك بها، الطريقة التي تسحب بها شريط الكتف، أو حتى النظرة التي تلقيها على الأرض عندما ترتدي القطعة الأخيرة، كلها تفاصيل ترسم شخصية كاملة.
هي ليست مجرد ممثلة ترتدي ملابسها الداخلية. إنها امرأة تتحدث من خلال جسدها وصمتها، تكشف عن شيء ما دون أن تبوح به. المشهد، في بساطته الظاهرية، يصبح لوحة حية، نصًا مرئيًا مكتوبًا بالضوء والظل والحركة البطيئة التي تحمل العالم بأسره بين طياتها.
علي بدر
كاتب وروائي عراقي