الانفصال الأخلاقي يُشعل فتيل الهاوية

كتبه | براء الجمعة

حين يُذبح الضمير على مذبح الازدواجية، يصبح القتل بطولة، والتنكيل واجبًا، والصمت حكمة. يُعاد تشكيل العقول لتتقبل الفظاعة كروتين، ويُعاد تعريف الوحشية بوصفها ممارسة “مشروعة”. تتسلل الأيديولوجيات ببطء، كالمخدر، تحرّف القيم، وتعيد تشكيل الإنسان في صورة مسخٍ يحفظ الشعارات، لكنه فقد صوته الأخلاقي. وحين يتحول الشر إلى هوية، يبدأ الإنسان بابتلاع ظله، فيصير الجلادُ ضحيةً لقسوته، والضحيةُ شبحًا يطارده صمتُ المتفرجين.

في الخراب، حيث الدمُ يجفّ كأنه لم يكن، وحيث الضحايا بلا أسماء، يتساءل أحدهم: متى بدأ هذا الانحدار؟ هل حين صار الجلاد يُنصت لخطاب “الإبادة” بدلَ أنين الضحايا؟ أم حين تحوّل الرعب إلى لغةٍ يومية، كهواءٍ يُستنشق دون أن يُحسّ بثقله؟ الضحايا هنا أوراق يطويها النسيان، بينما هناك من يرقص فوق الألم.

ليس الانفصال الأخلاقي مجرد خداع فكري، بل آلية نفسية تتيح للفرد أن يرى العنف فضيلةً لا جريمة. يُعاد تأطير القسوة لتصبح علامة قوة، ويُحوَّل العقاب إلى طقس مبرر، تبريرًا لا ينبع من الحاجة إلى العدالة، بل من وهم التشفي والثأر. وحين يُشرعن العنف بما يكفي، لا يعود سلوكًا، بل يتحول إلى هوية، يتماهى معها الإنسان حتى لا يحتاج إلى تبريرها، بل يراها جزءًا من نسقٍ يمنحه الطمأنينة، ويغرقه في وهم النقاء الأخلاقي وهو غارقٌ في الدم. وكأن العنف صار إبرةً تخيط جراح الماضي بخيطٍ من لهب، فتشتعل الأجساد، وتُطفأ الأرواح في صمت.

لكن في عمق هذا الحطام النفسي، يولد وهمٌ جديد: أن القسوة تصنع رجالًا، وأن العنف يطهر، وأن الجريمة إذا تكررت بما يكفي تصبح عُرفًا مقبولًا. إنها اللحظة التي تنفصل فيها الأخلاق عن الفعل، ويتحول الإنسان إلى آلة، ترمش عيناه لكنه لا يرى. تُكتب التبريرات على جدران الوعي بأحرفٍ من دم، ويُعاد تشكيل الضمير ليصير عدسةً مشوهة، ترى الانحياز فضيلة، والتطبيع مع الوحشية ضرورة.

وهنا، في نقطة اللاعودة، لا يعود السؤال: كيف وصلنا إلى هنا؟ بل: هل بقي طريقٌ للعدالة؟ حين يتطابق الوجه مع القناع، يصبح الخلاص مرهونًا بقدرة الإنسان على استعادة صوته الأخلاقي… قبل أن يُسحق تحت أقدام التصفيق ويدفن في رماد الذاكرة .

______________________
* براء الجمعة : كاتب وشاعر ومترجم وصحافي سوري.

مقالات قد تعجبك
اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.